حين أُنزل الإسلام كانت يشمل بالقرآن و بالسنة تعاليم مدنية لشئون الحياة (سياسة-اقتصاد-احكام مجتمعية) ثم أضيفت للشريعة أحكام جديدة إجتهادية فيما يعرف بالفقة لتتشعب المذاهب و الإتجاهات داخل المذهب الواحد ليمتد الأمر من الخلافة الراشدة للأموية و العباسية ثم العثمانية و تمر القرون السادسة عشر و السابعة عشر لنصل إلى مرحلة جديدة تماماً..مرحلة النهضة الأوروبية.
في القرن الثامن عشر بدأت الإنسانية في تطوير معاني عديدة سياسية بحكم الشعب ديموقراطياً بإستلهام من الحضارات الوروبية القديمة و إنسانية بالمساواة المطلقة للفرد داخل الدولة مع غيره من أبنائها و حقوق الأقليات و رؤية إقتصادية جديدة لدور الدولة مع الفرد و المجتمع مما ادى لإنقلاب كبير داخل الدولة العثمانية وارثة الخلافة و المنفذة لأحكام الشريعة فقد إختلطت السياسة بالدين لتصنع هالة إضطرابات كبيرة داخل الدولة و بالذات للأقليات المسيحية و الطبقة المتعلمة الراغبة في الإصلاح السياسي و الثقافي الممتد حتماً لضرورة إعادة الاجتهاد في احكام الشريعة لتتلاءم مع المتغيرا .. هنا ظهرت مدرستين متناقضتين جداً.
في الجزيرة العربية بالقرن الثامن عشر و كحل لمواجهة التغيرات الكبيرة كانت رؤية رجل دين يسمى محمد بن عبد الوهاب أنه من الضروري رفض كل التغييرات و اللجوء للنصوص الشرعية من قرآن و سنة بتفسير علماء محددين أهمهم إبن تيمية ، بمعنى آخر كان الإصلاح لديه عبارة عن العودة للجذور و تجاهل اي تعامل مع العصر بصيغة التغيير و اللجوء للتشدد لمواجهة المتغيرات لكن تم تدمير المشروع عبر قوات مصرية أرسلها الوالي العثماني محمد علي باشا لتدمر تماماً النفوذ التوحيدي (الوهابي) الذي أسس له محمد بن عبد الوهاب و إن لم يتم القضاء على الفكر و الرؤية.
في مصر بالقرن التاسع عشر و كوسيلة لمواجهة المتغيرات كانت (بداية) إصلاحية من الداخل الديني الوسطي عبر الشيخ محمد عبدة و إإستمرت بنجاح حتى وفاته لكن بمقاومة شديدة من الداخل متأثرة بالتراث النقلي الفقهي القديم دون الرؤية العقلية و تأثراً بنفس مصادر التوحيدية (الوهابية) من رؤى إبن تيمية و غيره لتستمر التجربة و تنتقل للأزهر وسط شد و جذب تمثل في حالات د.طه حسين و الشيخ علي عبد الرازق و غيرهم في دلالات واضحة على الصراع الفكري و كانت النتيجة بطء شديد لعملية الإصلاح و عدم تحقيق فعلي للمطلوب و هو إصلاح الشريعة في شئونها الدنيوية لتتناسب مع العصر الحديث بمفاهيم ثورته الانسانية بشكل سليم.
تراكمت بالقرن العشرين عدة عوامل مؤثرة في الاتجاة العام للإصلاح الديني كانت سلبية بشدة تجاة الاصلاح و هي:
-1- الغاء الخلافة العثمانية (الشكلية) عام 1924 بشكل دفع أغلب العلماء للتقوقع الديني إن جاز التعبير كرد فعل بشري تقليدي مع أي أزمة..الهروب للدين و التشدد.
-2- إنشاء الدولة السعودية الثالثة و التي مثلت إمتداد فكري بتطوير محدود لأفكار محمد بن عبد الوهاب الانعزالية و أصبحت تملك ثروة مالية كبرى تؤهلها لنشر الفكر معتمدة على قوة المال.
-3- غرق المنطقة الإسلامية في دوامة أيدولوجية بحتة و بالذات في مصر إبان الخمسينيات و الستينيات بشكل جعل الاصلاح الديني محد\ود و ذي طابع رسمي غير جذاب و بمعنى آخر كان الاصلاح أقل من المطلوب و يتجاوز النظام نفسه.
-4- إنفجار المد التوحيدي(الوهابي) بالمنطقة إبان السبعينيات كرد فعل على هبوط المشروع السياسي القومي و إزدياد نفوذ الدولة السعودية و ألاعيب السياسة الدولية لضرب الشيوعية بالدين في نسخته  المتشددة مما رفع الفكرة الوهابية و أضر تماماً بالفكرة الاصلاحية التي بدأت مع الامام محمد عبدة.
-5- الإنهيار الشديد الذي أصاب كل مؤسسات الاصلاح الديني في المنطقة الاسلامية على نهج محمد عبدة و تحويلها لمؤسسات رسمية كما ذكرنا لا تتواءم مع الاصلاح الفعلي و لا يتقبلها الاغلب من الناس في مقابل ارتفاع شديد لأسهم المؤسسات الوهابية بل و امتداد نفوذها على مؤسسات الاصلاح عبر استقدام البعثات اليها و الدعم المالي ، بمعنى آخر تم اختراق المؤسسات الاصلاحية المتداعية من قبل المؤسسات الانغلاقية القوية بالبترودولار و بألاعيب السياسة الدولية.
-6- إرتباط الرؤية الانغلاقية بالعمل السياسي الداخلي في البلاد المؤهلى للإصلاح و على رأسها مصر عبر جماعات وهابية أو غير ذلك ممن يرفعون شعار الاسلام السياسي مما شكل اختراق سياسي للجبهة الداخلية نفسها فباتت مشاريع الاصلاح المنبثقة من مشروع الامام محمد عبدة ضعيفة فقهيا و سياسياً امام المشروع المنافس.
هنا و إلى اليوم تستمر نفس المشكلة في عدم وجود أي وسيلة حقيقية لمواجهة المشكلة كبداية لحلها و تكون البداية في الإقرار الكامل بأن الشريعة الاسلامية تحولت من شريعة دينية بالقرن ال19 تحتاج لإصلاح داخلي على غرار الاصلاح البروتستانتي إلى شريعة في القرن ال 21 تتناقض بشدة مع العصر و لا تمثل أي إضافة بالمرة للنهج الإنساني في شئونها الدنيوية من سياسة و إقتصاد و احكام مجتمعية ، إنني كمسلم أؤكد لكم أن مقولة :
الإسلام عائق أمام تقدم الانسانية.
هذه المقولة لا تتعلق بالاسلام نفسه كدين لكن تتعلق بنهج يصف نفسه بالاسلام الصحيح و له وجهان:
الاول هو السلفي الذي يصر على إستنساخ الشريعة كما هي من 1400 سنة.
الثاني هو أغلب التيارات الدينية كالاخوان و يأتي بالشريعة ليُجملها شكلا دون تغيير حقيقي.
بين التيارين تظل المشكلة مطروحة و هي أن الشريعة لا تصلح لهذا العصر لسبب بسيط هو أنها تنتمي بشئونها الدنيوية لزمن إنتهى تماماً.
نهايةً:
إني أؤكد ان مشروع الإمام محمد عبدة كان مثالياً للإصلاح على غرار النهج البروتستانتي في أوروبا و كان ليصير ثورة فكرية حقيقية لو إستمر و تم دعمه خاصةً مع سقوط الدولة السعودية الاولى و ظهور دولة ثانية ثم سقطت و بدأت دول معادية للوهابية هي دولة جبل شمر التي ترافقت مع المحاولات الاصلاحية لمحمد عبدة أي ان الوهابية كانت مطرودة منفية مما أفرغ الساحة امام الاصلاح الحقيقي لولا ما حدث و تم شرحه.
علينا السعي و عدم الخوف من الحقيقة فالله لن يعطينا الاجر على السكوت و النقل فقد سلمنا العقل و به نحيا و نستمر..
و الله من وراء القصد.