هذه صفحات من تاريخ الإخوان الذي لا نعرفه جيداً ، صفحات سطرت إغتيال حسن البنا لاحقاً و كانت سبباً رئيسياً في إنعدام ثقة النظام الملكي في البنا بعامه الأخير و دافعاً مع عمليات الارهاب التي قام بها الاخوان بمصر الى حل الجماعة بيد النقراشي باشا ، إن اليمن عام 1948 كان نموذجاً على سياسة الإخوان في أي بلد يمتدون له فلهم مشروع دولة ووسائل تطبيق ووصول للحكم لا تلتزم إلا الميكيافيلية السياسية فقط عبر التحالف ثم الانقلاب وقت التمكن من أجل التمكين و حتى الأنظمة التي تماثلهم فكرياً فهم مستعدين للإنقلاب عليها فمشروعهم لا يعرف الشراكة بالحكم بل التمكين فقط ، كانت ثورة 1948 اليمنية تستحق لقب الاخوانية بإمتياز لدور الاخوان فيها و دور البنا تحديداً في صناعتها ، إن اليمن علامتين واحدة لتاريخ الاخوان السياسي الملخص لمنهجية البنا السياسية و علامة إخرى لمنهجية مصر الناصرية بالستينيات لاحقاً و من 1948 الى 1962 أربعة عشر عام و خصم واحد لرجلين ، الامام أحمد وريث الامام يحي ضد البنا و ضد ناصر في صراعين و عهدين و فكرين و مشروعين مختلفين تمام الإختلاف  و متناقضين كلياً بلا إتفاق جمعتهما أرض اليمن السعيد.
اليمن المتوكلية:
في العام 1904 دانت أجزاء من اليمن العثماني لسيطرة يحيى بن حميد الدين الذي نجح في هزيمة القوات العثمانية و أجبرها في عام 1911 على توقيع إتفاق إستقلال ذاتي لليمن بحضور عثماني مهزوم -من الضباط وقتها مصطفى عصمت رئيس تركيا القادم المعروف لدينا بعصمت إينونو- و بعد إستسلام الدولة العثمانية في 1918 أعلنت اليمن إستقلالها التام عن الأتراك بإمامة يحيى بن حميد الدين ، كان حكم الامام رجعياً بشدة مناهض للعصرنة يقود شعباً الأمية فية تزيد عن 95% و لا توجد به مشافي أو أطباء الا مجموعة قليلة بخدمة الامام  الثري البالغ ماله 140 مليون ريال -40 مليون استرليني- فلا مسارح و لا سينما و لا ثقافة بل اذاعة محلية تقوم مرة واحدة لنصف ساعة كل خميس و للبلاد طائرة واحدة هي طائرة الامام و لا يسمح لليمني بالسفر بالطائرة حتى لا يكون بالاعلى و الامام بالاسفل و باخرة واحدة و البريد ينقل بالجمال و التليفون للحكومة فقط و 60 سيارة في كل البلاد و بدون بنوك و عملتهم الريال النمساوي -!-وسط معاداة للحداثة لدرجة أن الامام حين علم بوجود أجهزة فونوغراف أمر الجنود بتفتيش البلاد و مصادرة الاجهزة باعتبارها من مسببات الفساد و تحولت مدرسة الصناعة لسجن حربي بل إن الجيش كان حافياً بلا أحذية ، كان الشعب اليمني بسيطاً لدرجة مخيفة حتى أنه بالعام 1947 قيل أن هناك ثورة ستحدث فخاف الامام و دبر خدعة قوامها أن أعلنت الاذاعة يوم الخميس أن سلطان الجن قد تم قتله و حكومة الجن في فوضى و طلبت الاذاعة من الناس أن يختبئوا بالبيوت و دهنها بالقطران حتى لا يؤذيهم الجن ففعلوا و بهذا أجهضت ثورة مجهولة !
الإخوان و اليمن:
كان حسن البنا معجب بالشعب اليمني كشعب بلا سياسة أو جدال أو إهتمامات عصرية و يراه شعب مؤهل للتجربة الاخوانية فيقول “اليمن أفضل من غيرها من البلاد العربية و يمكن أن تكون منطلق لدعوة اسلامية صادقة بإنشاء دولة تحكم بما أنزل الله و تستقطب زعماء و علماء و عباقرة المسلمين ” ، و كان البنا قد أرسل رسالة الى الامام في 1946 يطلب منه إقامة حكومة إسلامية مسئولة يؤازرها مجلس شورى يمثل الشعب و لا ينتقص من سلطات الامام شئ -!- و أشاد بموقف الامام من رفض نصائح الامريكان و الفرنسيين بالاصلاح السياسي باعتبار موقف الامام حرص على العقيدة -!- ثم توسط بين الامام و بين الشباب الذين هربوا من اليمن الى مصر بمطالب اصلاحية و قابلوا البنا.
كانت البداية حين تقابل البنا و المعارض اليمني عبد الله الشماخي في أثناء الحج و إتفقا على التعاون و بدأ البنا في فتح الباب لليمنيين المعارضين و طلاب اليمن بالازهر وسط تأكيد إخواني على ان حكم الامام يشوة الاسلام و لا يخدمه و أن الشعب اليمني مؤهل للحكم الاسلامي ووصل الامر لإستضافة البدر حفيد الامام يحيى في مقر الاخوان حين زار القاهرة للعلاج لحضور بعض الندوات و كان هذا بمساعدة جزائري معروف اسمه الفضيل الورتلاني الذي تولى تنظيم و تأهيل الشباب اليمني المعارض ثم العالم الاثري أحمد فخري و المصري صاحب شركة اتوبيسات الشرقية محمد سالم و سافر الورتلاني لليمن كمندوب لشركة الاتوبيسات بوساطة من البدر لتأسيس شركة هناك و كان الهدف العمل من الداخل للثورة المرتقبة.
كان الورتلاني مندوب البنا باليمن و مهندس الثورة فحضر ندوات و القى محاضرات بحماية البدر و حاز ثقة الامام بفضل الهدايا و مديح البدر حفيده فيه ، كان الورتلاني قد نجح في الاتصال بالمعارضين و الاتفاق معهم برضا البنا أن يكون اليمني قائد الجيش عبد الله الوزير هو إمام البلاد القادم و توقيع ميثاق وطني مقدس في 14 سبتمبر 1947 حملت ديباجته السمع و الطاعة للبنا و مباركته و التعهد بإقامة دولة قرآنية باليمن و التأكيد أن وضعها يجعلها أفضل بلد مؤهل لهذا ، كان تمويل الاخوان للمعارضة سراً قد امتد لإنشاء منشورات و جرائد سرية متداولة تهاجم الإمامة و تدعوا للتغيير.
الثورة اليمنية الاخوانية 1948:
في 10 يناير 1948 حاول وسيط يمني جنوبي اقناع حاكم اليمن الانجليزي ريجنالد شامبليون دعم ثورة ستقوم خلال الاسبوع التالي لكنه رفض الطلبات التي كانت توفير طائرة لالقاء المنشورات و تسهيل نقله لشمال اليمن ، في 15 يناير حاول مسلح قتل الامام يحيى أثناء نومه و فشل و هرب لكن الثوار توهموا أنه نجح فأذاعوا خبر موت الامام و تبين أن ثلاثة من أبناء الامام مشتركين في المؤامرة ، بدأت الاذاعات العربية تنقل الخبر و صدر بيان بتولية عبد الله الوزير و هنأت صحيفة الاخوان باليمن -أحداث صنعاء- الانقلابيين و الاخوان بالعهد الجديد و لكن لاحقاً تبين كل شئ و ساد الارتباك حين علوا ببقاء الامام حياً و مر شهر كامل بدون تحرك من أي طرف فلا الامام المريض قادر على ضرب المتآمرين و لا الطرف الاخر قادر على فعل جديد بل إن عبد الله الوزير تنصل من الموضوع كله و قال لأحمد إن يحيى أن الموضوع كاذب يريد توريطه ، و باتت البلاد على شفا انفجار خاصة مع تحسن صحة الامام يحيى و هنا قرر الثوار الضرب من جديد فتربصوا للإمام يحيى المتجة بسيارته لقرية حريز في 17 فبراير 1948 و قتلوه مع اثنين من ابنائه و حفيد له و تركوهم بلا دفن ثمانية ايام و اعتقلوا ثلاثة اخرين من الابناء و نعت صحيفة الاخوان المسلمين الإمام مدعية انه مات بالسكتة القلبية و ان هناك اعتداء حصل على بعض المسئولين الذين رفضوا الاعتراف بالاوضاع الجديدة !!
بويع عبد الله الوزير إماماً في نفس يوم الاغتيال و قفز دور الاخوان للقمة فأيد البنا الوزير و أعلنوا دعم الاحداث و اختار الامام الجديد عبد الله الوزير  مصطفى الشكعة المصري الاخواني  ليدير الاذاعة و اختيار حسن البنا و عزيز المصري ليكونا مستشارين له -!- و كانا ولدي الامام أحمد -والد البدر حليف البنا- و الحسن قد هربا و قادا مقاومة ضد قوات الانقلاب و اعلنت بريطانيا الحياد و في هذا الوقت كان الاخوان بمصر و سوريا و العراق قد إنتقلوا الى تأييد شامل للانقلاب و الهجوم على يحيى و عائلته متهمينهم بالخروج عن الاسلام -!- ووصف البنا  في برقية الوزير بالامام المجتهد الصالح التقي الورع الفقية الشيخ العالم حفيد الائمة -!- و تم إعلان الميثاق الوطني المقدس السابق الاشارة له من مقر جماعة الاخوان ليتضح للكل دور الاخوان في تأسيس و دعم الثورة اليمنية ووصل الامر لتفويض الثورة لحسن البنا ليكون متحدث بإسم اليمن بالجامعة العربية !!!!!!
كانت الامور قد وصلت للقمة حين أرسلت الجماعة في طائرة خاصة عبد الحكيم عابدين سكرتير عام الجماعة و أمين اسماعيل سكرتير صحيفة الاخوان و عبد الرحمن نصر الاخواني مدير وكالة الانباء العربية مع مكبرات صوت لدعوة القبائل لتأييد الاسلام و الثورة -!- و استقبلهم البدر ابن احمد – احمد الذي هو قائد الملكيين المناهضين للانقلاب- و اختير عابدين الاخواني ليكون خطيب الثورة بالاذاعة بمساعدة المدرسين المصريين الاخوان باليمن ، و طلبت حكومة الثورة عبر اين الوزير و الورتلاني من انجلترا دعم الثورة بالدبابات و الطائرات و طلبت من الجامعة العربية الاعتراف لكن الطلبين قوبلوا بالمماطلة و ارسلت الجامعة العربية طائرة تقل باحثين لدراسة الوضع يقودها عبد اللطيف البغدادي عضو مجلس قيادة الثورة 1952 لاحقا و الذي كتب تقرير قال فيه ان الاخوان صناع الثورة اليمنية ، كان الملك فاروق و الملك عبد العزيز آل سعود يدعمون الامير احمد بن يحيى للعودة الى الحكم و تحول موقفهم من الاخوان لعداء صارم لأن من يخلع ملك باليمن جاهز لخلع اخر بالسعودية و ثالث بمصر ، تمت أول جلسة لمجلس شورى اليمن الجديد و حضره البدر ووصفت جماعة الاخوان المشهد بحشود اليمنيين و زعماء القبائل الذين أتوا لبيعة الامام الشرعي الجديد و يرد الوزير بالصريح بالشوق للقاء حسن البنا كمستشار له لتأسيس وطن اسلامي جديد باليمن ووافق البنا لكن الملك فاروق منع سفره وسط منح مناصب كبيرة لمن شاركوا في قتل الامام يحيى !!
كانت الامور تنقلب على الثورة فالملوك العرب ضدها و الثوار منقسمون على المناصب و الاخوان يستأسدون و يتدخلون مما شكل حساسيات كثيرة ووصل الامر لنهب و تدمير الحي اليهودي بصنعاء -!- بينما صحيفة الاخوان بمصر تنشر ان الحكومة بريئة من دم الامام يحيى -!- و تشيد بورع و دين الحليف عبد الله الوزير و تصف الدعاوى للقصاص بقميص عثمان حتى اضطر السفير البريطاني بالقاهرة للتدخل قائلا ان الصحيفة الوحيدة في مصر التي تدعم هذه الاحداث هي صحيفة الاخوان المسلمين ، و لكن الامير احمد بدعم سعودي استطاع حشد قوات معارضة للثورة و هاجم صنعاء في مفاجأة صدمت الاخوان و الوزير ليحاصروها 10 أيام ثم يقتحموها في 11 مارس 1948 بعد حكم الوزير ب 26 يوم و قتل في الاشتباكات 5000 من سكان صنعاء و مع هذا ظل حسن البنا يؤيد الوزير مع ان الانباء جاءت بهزيمة منكرة له ووصل الامر لحد المهزلة حين يرسل البنا الى الامام احمد المنتصر يطلب من الالتزام بمواثيق حكومة الوزير -!- و ضم الوزير للحكومة الجديدة -!- ثم يرسل لعبد الله عزام يطلب منه انقاذ الثورة اليمنية و التدخل للعفو عن الثوار و الاخوان المصريين هناك !!
كانت النهاية محتومة فأمر الامام احمد بقتل كل المتورطيف في ميدان صنعاء بالشيف و على رأسهم عبد الله الوزير و العفو عن ابنه البدر و هرب الورتلاني مع بعض الاخوان المسلمين المصريين الى عدة دول عربية رفضت دخوله فذهب لباكستان ليبدأ الاخوان هناك مرحلة جديدة و غريبة مع خط و منهج أبي الاعلى المودودي و لهذا قصة اخرى ، كانت الجماعات الاخوانية المصرية باليمن قد فرت من قوات أحمد و لجأت مع مصريين آخرين لأحد البيوت و تحصنوا هناك بعد ان بات الامام احمد عدو لكل المصريين بسبب دور الاخوان في صناعة الثورة و قتل عائلته ووالده ، أرسل الفريق بغدادي طائرة حربية بقيادة عبد اللطيف يغدادي لاستطلاع الامر كمناورة دون أن يكلفه بانقاذ احد فالامر مستحيل تماماً.
هنا نأتي لمفارقة مبكية فوسط تجاهل فاروق للأمر و مكر حيدر تدخل النقراشي باشا و أرسل للامام أحمد يحذره من قطع العلاقات و يطلب منه ارسال الاخوان و المصريين الاخرين الى عدن فاضطر احمد للموافقة بعد تهديد لمح فيه لاعلان حرب و عاد الاخوان للقاهرة ليقتلوا النقراشي لاحقاً!!!!!!!
توالت اللطمات فالامام الجديد الغى مواثيق الاخوان التي كانوا يريدون حكم اليمن بها و قدم دلائل أن الثورة منحت البنا بالقاهرة 100.000 جنية و رد البنا انها اموال لشراء سلاح و اعترف العالم بالامام احمد وسط هجوم يمني على الاخوان و اتهامهم بالتسبب في آلاف القتلى و تدمير أجزاء من صنعاء حتى اضطر البنا لرجاء الامير عبد الله ألا يتأثر بدعايات مناهضة للاخوان في الوقت الذي لم ينسى فيه فاروق ملك مصر أن  بعض الطلبة الاخوان مزقوا صوره في مظاهرات 19 يناير 1948 صائحين لا ملك الا الله.
الحصاد:
-1- فقد فاروق أي ثقة أو اهتمام بالاخوان و اعتبرهم مخربين انقلابيين و كان هذا من أسباب اغتيال البنا لاحقا في 1949 إثر اغتيال النقراشي.
-2- تحطمت سمعة الاخوان بكل الملكيات العربية التي اعتبرتهم مناهضين للملكية مع ان البنا صرح ان الاسلام لا يتعارض مع النظام الملكي!!
-3- بات اليمن الشمالي طارد للأفكار الاخوانية و حملت صنعاء مسئولية الحدث الى الاخوان و حذرت من أنها لن تسمح لمثل هذا بالحدوث لاحقاً بأي ثمن فتلقى الاخوان ضربات كبرى هناك.
-4- جاءت حرب فلسطين لتثبت أن الاخوان يملكون تنظيماً عسكرياً قوياً قادر على القتال بفلسطين كما قاتلوا باليمن فباتوا تحت المجهر لتنكشف سرار التنظيم السري و تسير الأحداث كما هي الى اغتيال البنا بعد أن تبرأ من التنظيم.
..
كانت هذه قصة ثورة يمنية إخوانية ضد نظام ثيوقراطي ديني مشابه لهم لكن الحكم و السلطان لا يعرف المتشابهات و المختلفات فالسعي للحكم قد يقلب اخوانيا عرش سعودي ديني او مصري علماني او يمني ثيوقراطي لا يهم فالعرش هو الهدف و حتى مع الاخوان ميكيافيللي هو الاستاذ..
…………………………………………………………..
مصادر:
-1- رسالة دكتوراة (حركة المعارضة اليمنية) أحمد قايد الصائدي.
-2- كتاب من قتل حسن البنا محسن محمد.
-3- كتاب ثورة 1948 مركز البحوث اليمنية.
-4- شهادة عبد اللطيف البغدادي (مذكرات).