في المقال السابق عن الجهاد الأمريكي المتأسلم تحدثت عن الجهاد بأفغانستان طارحاً الوضع من زاويته الأمريكية من الألف للياء و هناك تناولت الجهاد الامريكي المسلح للمصلحة الامريكية ، الآن أود أن أطرح فكرة الجهاد السياسي و كيفية إستغلال الدين للغرض السياسي الخادم للإدارة الأمريكية -و هذا حق الأمريكان المطلق بالبحث عن مصالحهم- و لكن قبل البدء هناك ما أود توضيحه ، هذا المقال لا ينتمي لزاوية المقالات المتأثرة بالقومية العربية و لا هو مقال داعم للتوجه القومي بل هو مقال يطرح وجهة نظر الإدارة الامريكية و عملها من 1952 الى 1975 و هو عام التحول الكامل لمصر بإتجاه الحلف الغربي منتقلة من الحياد الإيجابي لصالح السوفييت -كيوغوسلافيا و الهند تحديداً- فالادارة الأمريكية و من خلال أوراقها حددت هدف معين و يجب تحقيقة من خلال إزاحة منظمة معينة إقليمية تعمل ضد مصالحها و لا تحقق أهدافها و ذلك بصنع تحالف معين يأخذ أشكال عديدة و صور مختلفة لكنه يقود في النهاية لوضع معين يحقق مصالحها ، لهذا فالمقال ليس عروبياً ينتمي للجامعة العربية بل هو مقال يصف الحالة الأمريكية في أخطر 23 سنة بالشرق الأوسط و كيفية إدارة لعبة الأمم الكبيرة..

العالم الاسلامي و الإدارة الأمريكية:
أطلت الولايات المتحدة على العالم بعد الحرب العالمية الأولى لكنها لم تقتحم قلبه بالشرق الأوسط إلا حين وطأت جيوشها جنوب أوروبا و شمال إفريقيا و زلزلت عرش القوة في هيروشيما و ناجازاكي فحينها وجدت لنفسها مقعداً بين الكبار لتحكم و تدير ، كانت الولايات المتحدة تعمل بهدوء لإرث النفوذ الاوروبي القديم المنتمي لعهد سطوة الرجل الابيض من إنجلترا و فرنسا فهي باليمين تدمر القوة الانجليزية و الفرنسية بدعم إستقلال المستعمرات -و منها مصر التي لعبت الولايات المتحدة دور أساسي في الضغط على تشرشل و إيدن إبان إتفاقية الجلاء 1954- و باليسار تعيد تجميع المستعمرات في أحلاف عسكرية غربية و أفكار أمريكية سياسية/عسكرية -أهمها حلف بغداد و مبدأ أيزنهاور و غيرهما- بحيث يحتفظ الغرب بطبعته الامريكية بمراكز القوة و ترث أمريكا باريس و لندن ، وسط هذا ان الاتحاد السوفيتي محط رأس السهم فالشيوعية هي العدو و الرأسمالية و قيم الحريات الامريكية في صراع لا ينتهي إلا بسقوط واشنطن أو موسكو و من هنا ظهرت فكرة إستخدام الدين لإزاحة الخطر الشيوعي و تعددت أشكاله الدعوية عن طريق السعودية و العسكرية بمال الخليج و الثقافية أيضاً بمال السعودية تحديداً ، مع هذا ظل الميدان السياسي هو الأخطر فكما تُزال المستعمرات و تستقل ثم تدخل الاحلاف الغربية لإستمرار النفوذ الغربي و منع السوفييت من التقدم أيضاً تظهر بؤر توتر مواليه للسوفييت عملياً و على رأسها مصر الناصرية 19454 و سوريا الحديثة 1958 و الجزائر المستقلة عام 1962 و ليبيا القذافي 1969 و هنا لا يصلح الحل العسكري الا قليلا فالحل السياسي هو الأمثل ، بهذا كان العالم الاسلامي على موعد مع ترتيبين:
-1- ترتيب عسكري سياسي هو حلف بغداد لضمان عدم تسلل السوفيين لخطوط البترول.
-2- ترتيب بديل لأي منظمة إقليمية (الجامعة العربية تحديداً) تعادي المصالح الامريكية و هو ترتيب المنظمات الإسلامية.
الوحدة الإسلامية و المصلحة الأمريكية:

بخلاف ما تردده أدبيات الإسلام السياسي عن حرب أمريكية ضد العالم الإسلامي كانت الولايات المتحدة داعمه بقوة لوحدة سياسية للعالم الاسلامي لأهداف عدة طوال فترة 1952 الى 1988 و هو عام رحيل السوفييت من أفغانستان و تأكد إنتهاء السوفييت إكلينيكياً:
-1- العالم الاسلامي يشكل حزام (مؤمن) يطوق السوفييت (الملحدين) أي حزام سياسي  ثقافي مناقض لماركسية السوفييت و بالتالي يصلح لتطويق المد الشيوعي ثقافيا و اقتصاديا و سياسياً.
-2- جامعة الدول العربية منظمة إقليمية مغلقة لا تسمح بوجود الحلفاء (إيران الشاة و تركيا مندريس و باكستان العسكرية و إسرائيل) على عكس فكرة العالم الاسلامي التي تسمح بدخول أغلب الحلفاء و التأثير على القرار.
-3- الجامعة العربية منظمة خاضعة للصوت العروبي المتحالف عسكريا و اقتصاديا مع السوفييت و يمثل بؤرة خطر على المصلحة الامريكية/الغربية و باب للمد الشيوعي سياسياً لذا لا بد من تحجيم أو إزالة المنظمة لصالح منظمة جديدة مرتبطة بالفكرة الاسلامية التي هي تلقائياً مناهضة للشيوعية و الاهم خاضعة للقرار التركي الباكستاني الايراني السعودي و كلهم حلفاء عكس مصر المتحكمة بالجامعة العربية.
-4- كانت مصر رافضة للفكرة حيث أنها مقتنعة أن أي وحدة لا بد أن تكون مغلقة تجيب أسئلة سياسية و ثقافية و أمنية فالوحدة الاسلامية لا ثقافة لها و لا قواعد أمنية تجمع دولها و لا أنظمة اقتصادية قادرة على لم أطرافها فهي وحدة مائعة لا تصنع موقفا واحدا و ستقود لضجيج بلا طحن و على حد تعبير الاستاذ هيكل : وحدة لا تعطي إجابات و لا لون لها.
الولايات المتحدة تصنع الوحدة الإسلامية:
* في يناير 1953 طرحت الولايات المتحدة على مصر عن طريق الوفد الذي يترأسه علي صبري و الذي توجه لواشنطن طالبا قرض لمشروع السد العالي المرتقب و تسليح للجيش المصري طرحت فكرة وحدة العالم الاسلامي من خلال المشرف على برامج المساعدات الأمريكية ألفريد أولمستيد الذي إقترح فكرة تحديد العدو بالسوفييت ثم شراء السلاح ، كانت الفكرة المطروحة أن السوفييت هم الخطر الأكبر و ليست إسرائيل و لا بد من وحدة إسلامية تكون مصر في قلبها تحاصر المد الشيوعي الملحد -!- مشيرا لحلف الاطلنطي كحائط صد يحصر السوفييت بالشرق و حلف جنوب شرق اسيا يحصر الصين و السوفييت أما منطقة الشرق الاوسط الاهم لا يوجد بها حلف مركزي يصد السوفييت و قال أن الحلف طبيعته موجودة و هي الطبيعة الاسلامية المؤهلة للنفور من الشيوعية عبر مصر و تركيا و باكستان كثلاث ركائز لهذا الحلف مؤكدا استعداد بريطانيا و فرنسا للمساعدة بلا حدود حيث يمارس الحلف مهمة جذب المسلمين بالصين و الاتحاد السوفيتي لقلقلة الشيوعية ، رفض عبد الناصر الفكرة و كان له مسار آخر لكن الفكرة لم تمت.
* في فبراير 1954 وقعت تركيا حلف مع باكستان انضمت له العراق في فبراير 1955  و معها انجلترا  ليسمى حلف بغداد و هنا بدأ الصراع ، الجامعة العربية بقرار ناصري رفضت الحلف و شنت ضده حرب شعواء و أتى السلاح السوفيتي عن طريق تشيكوسلوفاكيا لتنفجر المنطقة و تبدأ حرب جديدة عام 1956 تنهيها الولايات المتحدة و الثلج السوفيتي كوارثين للمنطقة و مع هذا العام تصبح جامعة الدول العربية ممثلا لتيار القومية العربية المناهض للمصالح الغربية الموالي للسوفييت عملياً بينما دول حلف بغداد و منها أعضاء بالجامعة حلف اسلامي ضد الشيوعية يضم بريطانيا -!!- و يسعى للتسلل الى لبنان المحكومة بكميل شمعون لكنها تفشل و تظل الفكرة الاسلامية حاضرة بإنضمام رسمي للسعودية الموالية للمصالح الامريكية بحكم البترول و الملكية الوهابية و تأييد مطلق من الاردن و المغرب دون إنضمام رسمي.
* مع العام 1958 غادرت العراق الحلف بإنقلاب دموي أباد هاشميي العراق و كشف أوراق الحلف الكاملة التي أشارت لكل ما سبق من رؤية أمريكية إسلامية مناهضة للجامعة العربية بإعتبارها على حد تعبير السفير الامريكي بالعراق (بؤرة مد شيوعي) ، قام جون فوستر دلاس على الفور بإعادة هيكلة الحلف الى إسم الحلف المركزي الذي يضم باكستان و تركيا و ايران و لعب عدنان مندريس دورا كبيرا في إعادة التأسيس بصفته رئيس وزراء تركيا معتبرا الحلف إسلامي مناهض للشيوعية (العجيب أنه في نفس العام زار مندريس إسرائيل ووثق العلاقات و عقد إتفاقيات كبرى مع تل أبيب لم يصنع اكبر منها لاحقا الا على يد نجم الدين أربكان) و استمر الحلف كحلف مسلم يطوق المد الشيوعي بتأييد من ملكيات السعودية و المغرب و الاردن.
* بالعام 1960 إنفجر الجيش التركي بإنقلاب ضباط شبان أعدموا عدنان مندريس و خرجوا من الحلف المركزي موضحين حقائق الامور للمرة الثانية في 3 أعوام -!- لينتهي الحلف المركزي الاسلامي و يبقى الحلف الاسلامي بباكستان و ايران فقط بدعم خلفي من الاردن و المغرب و السعودية ، كان المؤكد أن أوراق الحلف تساقطت و باتت الصيغة العسكرية لحلف اسلامي يضم أبرز بلدان العالم الاسلامي صيغة قديمة فضحتها أوراق انقرة المكشوفة و أوراق بغداد الاكثر انكشافاً لتخرج فكرة جديدة و صيغة عبقرية…منظمة للعالم الاسلامي كله سياسية و ليست عسكرية تتحكم فيها دول حليفة دون تأثير عسكري.
* في 20 يوليو 1966 و بناء على الحاح من ذو الفقار علي بوتو اللاجئ في جنيف تمت مقابله بين عبد الناصر و بوتو و قال بوتو نصاً:

(إن الولايات المتحدة الأمريكية طرحت على السعودية فكرة إقامة مؤتمر اسلامي عام و الملك فيصل و شاة ايران متحمسان و أعلن الأمر في مؤتمر وزراء خارجية الحلف المركزي و السيد دين راسك ( وزير خارجية أمركيا) متحمس و مؤيد و قال أن هذا هو العمل الوحيد الذي يمكن أن يحاصر نفوذ الجمهورية العربية المتحدة و يحجم جامعة الدول العربية و يكمل فكرة الحلف الاسلامي).
و هنا كانت الفكرة التي أنشأت لاحقاً منظمة المؤتمر الاسلامي ، تجميع كل العالم الاسلامي بشكل يدمر أي منظومة أمنية لإستحالة وجود منظومة واحدة تجمع إندونيسيا و المملكة المغربية مثلا و تمييع العلاقات الاقتصادية لاستحالة جمع اقتصاد موريتانيا بباكستان مثلا و استحالة وضع برنامج عمل سياسي خارجي يرضي تركيا و الجزائر مثلا ، الفكرة تدمير أي عمل عربي موالي للسوفييت و عدو للنفوذ الغربي و الاهم الغاء فكرة القوة المستندة لجامعة اقليمية قومية تخرج كل حلفاء الولايات المتحدة الامريكية و على رأسهم اسرائيل.
*جاءت هزيمة 1967 لتنهي نفوذ الجامعة العربية و تحيل كل شئ الى الاستيداع ، الناصرية تترنح و المد الشيوعي السياسي توقف و الكل مبهوت ، هنا جاءت الفرصة المثالية لتنشئ السعودية في 1969 منظمة المؤتمر الاسلامي و تعقد أولى جلساتها بالرباط (و تولى الملك الحسن الثاني الاشراف على وضع أجهزة التنصت الامريكية و الأفراد الذين سيتولون مهمة التجسس على الوفود لصالح إسرائيل كما بينت إسرائيل نفسها بعد وفاة الحسن !!) و بدأت جامعة الدول العربية بالاضمحلال لصالح المد الديني الجديد القادم سياسياً و تضخمت المنظمة طردياً مع تهاوي القومية و الناصرية بموت ناصر ثم تحولت الجامعة العربية لمكان إجتماعي يضم موريتانيا و الصومال و جيبوتي و فسلطين التي ليست دولة أصلا و كان عبد الناصر يرفض انضمامها كدولة للجامعة ، توالت عمليات دعم المؤتمر الاسلامي الذي يدين و يشجب لكن لا يرسل السلاح للقتال كما فعلت الجامعة العربية ، كان المؤتمر الاسلامي يضم أكثر من 50 دولة يفترض أن يكون هناك شئ ما يجمعهم -!!!- لدرجة أنها اعطت لروسيا مقعد مراقب و شمال قبرص بطلب تركي -!!- كانت و لا تزال المنظمة وسيلة سياسية للنفع الامريكي و كان المثال الاوضح تعليق عضوية افغانستان السوفيتية بطلب مباشر من الادارة الامريكية ثم اعادتها بعد رحيل السوفييت و قبول بقاء افغانستان الارهابية الطالبانية -!!- ، مثلت المنظمة وسيلة لتمييع اي قضية فهي لا تقدر على ايجاد شئ مشترك بين أكثر من 50 دولة من 3 قارات تضم كوت دي فوار و سورينام و موزمبيق و سيراليون و بوركينا فاسو الخ الخ الخ-!!- ، المنظمة التي هي واجهة اسلامية لإرادات السعودية و تركيا و الحلف الاسلامي الغربي مكلمة المسلمين الكبرى..
..
بإختصار:
مثلت الجامعة العربية بالخط الناصري (شغب) ضد المصلحة الامريكية فتمت محاصرتها بأحلاف عسكرية سياسية فشلت فتم انشاء منظمة اسلامية كبرى تطيح بنفوذ الجامعة العربية و تضم دول لا علاقة لها ببعض و تذيب القضايا و تتخذ مواقف غربية بامتياز و لا تسلح مقاومة و لا تتخذ موقفا بل تسير على النهج الاسلامي الديني في ضرب السوفييت بأفغانستان (مثلاً) و ضرب ميلوسوفيتش (موضوع الحلقة القادمة إن شاء الله) مثلا  بتمويل من يقاتلهم  بطلب أمريكي بعد طول صمت و اتخاذ كل موقف يرضي الادارة الامريكية تحديداً ، الفكرة هي جهاد اسلامي ضد الشيوعية سياسياً بإرادة أمريكية تصل الى انشاء المنظمات و الاحلاف ، فالدين خير وسيلة لاقناع القطيع.